الأحقاف نيوز / خاص
كتب / عدنان باوزير
استمطروا سماءكم بأنشودة المطر .. اغسلوا أرواحكم بأنشودة المطر
ضعوا مظلاتكم جانباً واخرجوا من تحت الشماسي وتعالوا نتبلل تحت المطر
كانت القصيدة من مقررات النصوص الأدبية في الثانوية العامة فلم احفل بها ولم أفهمها وبالتالي لم أحفظها ، وقبل ثلاثين سنة تصدى فنان العرب (محمد عبده) وفي خطوة جريئة فنياً ولفتة ذوقية هي بمثابة اختراق فني عظيم بمعنى الكلمة ، تصدى (أبو نورة) لتلحين القصيدة التحفة فأبدع في ذلك أيما إبداع ، وأضاف للقصيدة المترعة بالموسيقى والجرس وايقاعاتها الداخلية موسيقى وايقاعات خارجية غاية في الروعة ، ولو لم يكن برصيد محمد عبده الفني غير (أنشودة المطر) لكفته ليكون أعظم مطربي العرب في العصر الحديث ، لقد كنت ومنذ وعيت على الفن من أشد المعجبين بأداء هذا الفنان الكبير ، لكنني توقفت عن حبه بل وبغضته بسبب العدوان السعودي على بلدي (اليمن) شأنه شأن كل شيء يمت لهذه المنظومة العدوانية بصله ، لكني بالطبع لم أبغض فنه فالفن يبقى هو الفن .
سمعت الأغنية لأول مرة قبل ثلاثين سنة عندما كنت أعيش في صنعاء الممطرة فحفظت القصيدة التي استعصت على الحفظ في الثانوية من أول مرة ، وأدمنت على سماعها وتكرارها عشرات ان لم تكن مئات المرات ، وكلما تلف شريط من كثرة التشغيل اشتريت شريطاً آخر ’ كنت أسمعها (القصيدة الأغنية) وأنا أجوب شوارع صنعاء المليئة بمياه الأمطار فأشعر بأني أسمعها في بيئتها الحقيقية ، وكلما تقع سيارتي في الحفر المطمورة تحت الماء والتي تمتلئ بها شوارع صنعاء كان ينضاف على ايقاعات القصيدة ايقاعات فوضوية جديدة فتضيف لها سحر على سحر وحركة على حركة ، فتتضارب الأحاسيس وتجيش المشاعر المتناقضة والتي تتناوب في القصيدة بين الغزل والحب والحزن في تضارب منسجم عجيب .
وقبل أمس وبدون أي مقدمات وفي جو لا يشي بأي علامة من علامات المطر تذكرت (الأغنية) فقمت من الصبح أبحث عنها في (النت) حتى وجدتها وحملتها ، فسمعتها مرة ومرتين وثلاث وعشر ، مرة بالسماعات ومرات بدون ومرة عبر البلوتوث الى سماعات أضخم وكل مرة أسمعها أعيش معها جو المطر بكل تناقضاته النفسية ، سمعتها على السرير وفي الحمام – في الحمام تحت الدش طبعاً وليس بوضع آخر فأنا احترم الفن – سمعتها بالمطبخ وبكل أرجاء البيت ، ثم وضعت السماعات في أذني ونمت ، ولم أصح الا على صوت أحد أولادي يصيحيني لأقوم وأرى المطر !! استغربت الأمر فأنا نعم قد سكرت حتى تبللت من مطر (بدر) و (أبو نورة) ولكن الولد يتحدث الآن عن مطر حقيقية تنهمر فوقنا ، فقمت وأخذ تلفوني ووضعته داخل مشمع والمشمع داخل مشمع – شغل حضارم – ووضعت السماعات في أذني وخرجت أمشي تحت المطر ، صحيح شعرت بالمطر وبللتني كلي المطر ، ولكني كلما أغمضت عيني أشعر بها (المطر) تتسرب الى أذني عبر صوت أبو نورة والسياب أكثر مما أشعر بها تنهمر على رأسي وتبلل وجهي ، ولم أعد أدر هل تلك القطرات التي كانت تنساب من وجهي هي قطرات المطر أم أنها دموعي ، وقد بلغ جيشان عواطفي أوجه وبلغت مشاعري ذروتها ، كم هو جميل ووسيم جداً ذلك الرجل الدميم المدعو السياب الذي أنجز هذه التحفة الفنية الإنسانية الرائعة .
عدت بعدها الى البيت لأفاجئ بالمطر يتسرب من جميع الأسقف الى كل غرف البيت وزوجي وعيالي منهمكون في انقاذ ما يمكن إنقاذه من البلل ، فوضعت السماعات جانباً والتحقت بهم وهذه كرامة أخرى من كرامات السياب ومحمد عبده .
القصيدة الأغنية :
يبدأ اللحن بمقدمة أوبرالية غاية في الجمال لا تخلو من حزن دفنين ، ويبدأ المقطع الأول بغزل راق جداً وتشبيه إعجازي هو بحق أعظم ما قالته العرب :
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحر
أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسِمان تورِقُ الكُروم
وترقصُ الأضواء كالأقمارِ في نهر
يرجُّه المجداف وهناً ساعة السَّحر
كأنما تنبضُ في غوريهما النّجوم
أنشودة المطر
مطر .. مطر .. مطر
ثم ينتقل السياب فجأة – لا ليس فجأة – بل انه تطور طبيعي جداً ، فعادة ما يتطور الغزل والحب الى الحزن ، فللجمال رهبته وللحب لوعته وللمطر سحرها العجيب ، والحزن صنعة عراقية ، نعم الحزن صنعة عراقية عبر العصور وكلما يخطر أسم العراق على بالي يغشاني الحزن ، هو صنعة عراقية منذ سومر وأكاد ، ولا تخطئ العين الملاحظة مسحة حزن في عيون التماثيل البابلية الكبيرة ، وبين سطور أسطورة (جلجاميش) وفي موواويل ناظم وسحنة كاظم وفي رثائية رادود حسيني كربلائي ونحن الآن في محرم شهر الأحزان الكبرى . ومعه يتثاقل اللحن ويجيش هو الآخر بمسحة حزن :
تثاءبَ المساء والغُيوم ماتزال
تسِح ما تسِح .. مِن دُموعِها الثقال
كأنَ أقواسَ السَّحاب تشرب الغُيوم
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر
وتغرقانِ في ضبابٍ مِن أسن شفيف
كالبحر سرَّح اليدين
فوقه المساء .. دفءُ الشِتاء
وارتِعاشةُ الخريف
ويهطُلُ المطر
مطر .. مطر .. مطر
ثم يبلغ الحزن أوجه وتضارب المشاعر ذروتها و(تستفيق ملء روحك نشوة البكاء ، ورعشة وحشية تعانق السماء ) ولا تملك الا أن تكون جزء من حفلة البكاء الصاخبة هذه :
أتعلمين
أيَ حُزنٍ يبعث المطر
وكيف يشعُرُ الوحيدُ فيه بالضَّياع
كأنَّ طِفلاً باتَ يهذي قبل أن ينام
بأن أُمَّه التي أفاقَ مُنذُ عام .. فلم يجدها
ثُم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: بعدَ غدٍ تعود .. لابدَّ أن تعود
فتستفيقُ مِلءَ روحي نشوةُ البُكاء
ورعشةٌ وحشيةٌ تُعانِقُ السَّماء
كرعشةِ الطِفلِ إذا خافَ مِن القمر
مطر .. مطر .. مطر
ثم يبلغ الإبداع اللحني والموسيقي لأبي نورة ذروته في انفراجة فرائحية وكأنه يودع الحزن ويتراجع السياب الحزين بفطرته قليلاً ليأخذك وعبر مقلتي حبيبته ، سوى كانت أنثى أم وطن لا يهم فالشجن واحد ، يأخذك في جولة ولا أروع تحت المطر على ضفة خليج فارس العظيم فتشعر معه أنك بالضبط هناك معه وحيث أراد لك أن تكون ، ليكمل بقية حفلة المطر ومناجاة البحر وتشعر وكأن الرمال والمحار تلامسان أقدامك العارية وأنت تتجول معه ومقلتا حبيبته تطيفان بك ، والعجيب أن السياب قد ذكر في رائعة الخالدة هذه كل عناصر المطر (السحاب ، الغيوم ، البروق الخ) لكن لم يذكر الرعود وكأنه لا يريد لأي صوت آخر ان ينافس او يلخبط موسيقاه الداخلية الصاخبة ، وللمطر على شاطئ البحر سحر آخر ، حيث يختلط عليك أمر الماء فلا تدر هل تسقط خيوط المطر أم تتصاعد الى السماء ، ثم يختم بفتح كوة أمل للمستقبل ، وما (الحلمة المتوردة) التي يذكرها هنا سوى قطرة مطر ، فالمطر بإختصار هو الحياة :
ومُقلتاكِ بي تطيفانِ مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليج تمسح البُروق
شواطئ الخليج بالنَّجومِ والمحار
كأنها تهمُ بالشَّروق
أصيحُ بالخليج .. ياااا خليج
ويرجعُ الصَّدى كأنه النشيج
أصيحُ بالخليج
يا واهبَ الَّلؤلؤِ والمحارِ والرَّدى
وأسمع الصَّدى مِن لُجَّةِ القرار
وينثرُ الخليج مِن هِباتِه الكِثار
في كلِ قطرةٍ مِن المطر
مطر
مطر
مطر
في كل قطرة من المطر
هي إبتسامٌ في إنتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورَّدت على فمِ الوليد
في كلِ قطرةٍ مِن المطر
في عالم الغدِ الفتي .. واهبِ الحياه
ويهطِلُ المطر
مطر
مطر
مطر …
وأخيراً فقد تناولت التجربة بطريقة إنسانية بسيطة كما فهمتها بالضبط ولم أتحدث كالنقاد عن تناغم الألفاظ ودلالاتها ولا عن رمزيتها المفرطة أو عن أسطورة عشتار التي يقول النقاد عن تضمينها ، أو عن دلالة المطر والنخيل في الخصب والنماء لأني ببساطة لا أفهم كل هذه التعقيدات ، ولا عن التحليل التركيبي للقصيدة ..الخ ، والتي قال عنها (أودونيس) انها من أهم القصائد العربية ، وكل ما فهمته أن (السياب) كان موفق جداً في اختيار رمز (المطر) كأعمق وأقدر رمز لتضمينه كل هواجس النفس البشرية المتناقضة والمختلفة .
والآن إذا لم تبتل مع السياب وأبو نورة من المطر فما سمعت حقاً أنشودة المطر .